الطريق إلى الفوضى (4) - العلمانيون السلطويون
ورغم أني لا أرى أملاً في نهضة هذه الأمة بالسير في طريق العلمانية ليبرالية كانت أم سلطوية؛ إلا أني لا أخفي احترامي للعلمانيين الليبراليين؛ لأنهم منسجمون، ومتسقون مع ما يؤمنون به من أفكار..
فالعلمانيون الليبراليون – كما يرى د. معتز عبد الله عبد الفتاح – "يرفضون السماح بأية حدود على حق أي فرد في أن يكون جزءاً من التنافس السياسي. لذلك فإن هدف نقدهم ومعارضتهم الأول ليس الإسلاميين، ولكن معركتهم الأساسية مع قادة الدولة المستبدين سواء كانوا إسلاميين تقليديين أم علمانيين سلطويين".
أما العلمانيون السلطويون فإنهم "يفضلون حكومة مركزية قوية تحمي وحدة الدولة، حتى لو لم تكن ديمقراطية."، كما أنهم يتبنون مقولة "إن الإبقاء على الوضع القائم مع أنه غير ديمقراطي، أفضل من خطر الديكتاتورية الدينية التي ستنتج من الثقة الساذجة في احترام الإسلاميين للديمقراطية".
ويؤكد الواقع أن هؤلاء العلمانيين السلطويين هم السبب الأساس في تخلف مصر (وباقي البلاد العربية والإسلامية)؛ فقد استلموا السلطة من الاحتلال الأجنبي، وسيطروا على كل منابع الثقافة، والإعلام الرسمية منها، وغير الرسمية، وعلى أيديهم درنا في دائرة تخلف سياسي، واقتصادي، وفكري، وعلمي، وثقافي؛ فلم نلحق بالغرب علمياً، ولم نحافظ على قيم الشرق اجتماعياً..
وهم دائماً جزء من تلك السلطة الغاشمة إما بالانتماء المباشر لها، أو بالتعمية عنها وعن جبروتها، أو بشغل الناس بمعارك وهمية لقضايا فرعية لا تشغل إلا عقولهم، وأدمغتهم الفارغة..
وهم يرون أن تركيا العلمانية المتخلفة تحت حكم العسكر أفضل بكثير من تركيا المتقدمة الديمقراطية المتسامحة مع الدين، وكذلك يرون أن أنهار الدماء التي سالت في الجزائر بسبب وقف الانتخابات خير من تسلم الإسلاميين للسلطة!!
كما أنهم لا يعترفون بهوية لهذه الأمة، ولا يرون أن لها امتداداً جغرافياً كان أو تاريخياً إلا مع الحجارة الفرعونية التي لا قوام حضارياً لها فكرياً، أو ثقافياً؛ إلا أنهم يؤكدون الانتماء إليها نكاية في أعدائهم الوحيدين الذين يرون هوية الأمة عربية إسلامية..
كما يرى هؤلاء العلمانيون السلطويون أن التغريب هو المنهج الوحيد الصالح، كما قال كبيرهم سلامة موسى: "فلنولِّ وجهنا شطر أوروبا.. ونجعل فلسفتنا وفق فلسفته"، كما أنهم يرفضون الدين رفضاً قاطعاً (أو تركه في المنزل أو المسجد على أحسن تقدير): "ليس للإنسان في هذا الكون ما يعتمد عليه سوى عقله، وأن يأخذ الإنسان مصيره بيده ويتسلط على القدر بدلا من أن يخضع له".
وقد يشط بعضهم فيسرف في اتهام الدين، وصاحب رسالته بالكذب، والسرقة من الجد الفرعوني؛ فيقول أحدهم: "عرفت أن خالى.. ليس بخالى.. إنما هو راعى غنم.. خدعنى وكذب علىَّ حتى صدقته.. عرفت أن جدى.. هو أول من علم هذا الكذاب أن هناك حياة بعد هذه الحياة، وأن هناك عدالة اسمها ماعت، وأن هناك حساباً، وثواباً، وعقاباً... وأن هناك جنة وناراً، وكان هذا الخال الكاذب يؤمن بأن الأرواح تذهب إلى أرض الظلمات.. أرض «شيول». عرفت أن جدى كان أول من وضع قانوناً للأخلاق أسمى بكثير من قوانين هذا البدوى «برستد» كما أنه كان أول من وضع قانوناً لحقوق الإنسان «حور محب»".
كما أن هؤلاء يرون في الانحراف الأخلاقي مستلزماً أساسياً من مستلزمات اللحاق بالغرب، والتبعية له، كما ينقل الشيخ الغزالي في كتابه "من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي الحديث" عن الأهرام في رسالة نشرتها للدكتور/ مصطفى الديواني: "… لماذا لا نراجع أنفسنا وقوانيننا في حدود التطور العالمي الخلقي؟ فللشباب ثورته، ولا مفر من مهادنته بطرق محتشمة حتى يزهد في المرأة عندما يراها في متناول يده!".
وهؤلاء السلطويون لا يستحون من التنقل بين الاشتراكية والرأسمالية، ومن الشمولية إلى الليبرالية، ما دام ذلك يبقيهم قريبين من السلطة، ومنافعها، وملذاتها؛ فقد كانوا في العهد الناصري اشتراكيين تقدميين، ثم صاروا في العهد الساداتي رأسماليين انفتاحيين، ثم هم الآن مع الاستقرار والجمود في عهد الاستقرار والجمود..
ينهلون دائماً من خير هذا البلد؛ فيتولون المناصب الثقافية، والصحافية، والإعلامية، ويحصلون على الجوائز التقديرية والتشجيعية؛ فيحصلون على الآلاف والملايين، والجاه، والشهرة؛ ثم يدعون أنهم قادة الثقافة والفكر لهذا المجتمع الجاهل المتخلف (!!) الذي لا يعرف مصلحته، ولا طريق نهضته.
وهم لا يشاركون أبداً في الهجوم على الاستبداد؛ بل لا يمانع بعضهم في مدح المستبدين؛ فقضيتهم الأساسية مهاجمة استبداد القرون الإسلامية الأولى (!!)، ولا يرون بأساً في السلطات الإلهية الممنوحة للحكام؛ لأنهم مشغولون بنقض الدولة الدينية المرسومة في أذهانهم، كما لا يهزهم إعدام مفكر أو معارض إسلامي بمحاكم استثنائية بدائية؛ لأنهم يبحثون في عدم صلاحية الشرع الإسلامي للدفاع عن الحرية الشخصية!!
وتمكين المرأة هو قضيتهم الأساسية رغم أن لا حقوق في هذه البلاد للرجال ولا للنساء، ويحاربون الختان رغم أن مشروع إخصاء الأمة كلها يتقدم حيناً بعد آخر، ويدعون إلى حرية المرأة، رغم أن هذه المرأة لا تجد أصلاً من يسد رمقها ورمق عيالها!!
هم – في النهاية – معاول هدم مشغولة بالهدم لا بالبناء، بالتخريب لا بالتعمير، بالسفسطة لا بالعلم.. هم أذناب لمشروع غربي صليبي لا يريد هذه الأمة إلا راكعة مكسورة، وخاضعة منهزمة؛ لتسير في الركب تنتظر الفتات لا في المقدمة قائدة للإنسانية..
إخواني.. أخواتي
إن نهضة الأمة تعتمد أساساً على اعتزازها بهويتها، والبناء على ثقافتها وتاريخها، ولن تقوم لنا قائمة، ولن نرى نهضة أبداً إلا انطلاقاً من هذه الهوية التي كنا بها يوماً قادة للعالم أجمع..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق