الآلاتية!
إبراهيم عيسي
يُحكي أن الفرعون خوفو حين جاءته فكرة بناء الهرم الأكبر، قرر أن يجمع من كل أنحاء مصر كل المهندسين والبناءين والخبراء والمخططين والعمال والصنايعية والفواعلية والنجارين وكل من يقدر علي العمل من رجال وستات وشباب مصر، كي يشاركوا كلهم في بناء الهرم، ولا يبقي صانع ولا مهندس ولا بنَّاء إلا وهو يعمل في بناء هذا الكيان الضخم الهائل الذي يخلد ذكري الفرعون العظيم. وقد قيل الكثير في أن المصريين بنوا هذا الهرم بالسخرة وبالقمع والقهر، ولم يأخذوا مقابل عرقهم وجهدهم مالاً ولا أجرة، لكن آخرين يعتقدون أن شعب مصر ما كان ممكنًا أبدًا أن يبني أو يشارك في بناء هذا العمل الهائل بالسخرة والجبر، خصوصًا أنه يُفصح عن عبقرية خالدة لا يتمتع بها ولا يقدمها إلا أحرار أولاد أحرار. ولم يحسم التاريخ حتي الآن (وقابلني إن حسم) هل المصريون قد بنوا هذا الهرم بالحب والإبداع والعمل أم بالقهر والغلب والضرب بالجزم. لكن ما هو مؤكد في حكايتي التي أرويها لكم أن الفرعون بحكمته الثاقبة ورؤيته النابهة أراد أن يشجع شعبه الذي جمعه ليبني له الهرم ويثير فيه حماسة ورغبة في العمل ويحذره من الطلسأة والكروتة والغياب ويشغله عن عذاب الشغل، فجمع من أنحاء مصر كافة كل الأرتيست والآلاتية وقارعي الطبول وضاربي الدفوف ونافخي الساكس، ولم يترك واحدًا في أي مكان من شوارع المغني وأحياء المراقص وحانات المدن والقري إلا وجاء به، وتجمعوا كفرقة موسيقية هائلة تعزف الأغاني والأناشيد، وترقص علي واحدة ونص بالفرعوني، تمدح الفرعون وتسبح بحمده محذرة العمال من أن الفرعون يري كل واحد فيهم ولو غفِّلت ح ياخدك علي قفاك، ولو اشتغلت بذمة ستأخذ منحة، وأننا نعيش من خير ورضا الفرعون فاشتغلوا وإلا الفرعون ح يحط السيخ المحمي في صرصور ودانكم، ويتعالي الغناء والطبل في عز الجهد الرهيب والمشقة الشديدة، واستمر العمل في بناء الهرم سنوات حتي بان وعلا وارتفع شامخًا في سماء الجيزة، لكن الخبر المؤسف أنه بعد كل هذا العمل المضني والمؤلم مات كثيرون من العمال العظام الذين بنوا الهرم، حتي قيل إن ثلث الشعب المصري من العاملين قد ماتوا من التعب، ومرت فترة وجاء الفرعون خفرع فتفرعن وقرر بناء هرم هو الآخر، اشمعني هوه يعني، فنادي في أنحاء البلاد كافة وجمع من تبقي من الشعب المصري الذي مات ثلثه بسبب هرم خوفو ليبدأوا بناء هرم خفرع، وجاءت فرقة الآلاتية بكامل رجالها ونسائها وعددها ليعزفوا ويطبلوا للعاملين في بناء الهرم، وانقسم الشعب المصري فريقًا يعمل وفريقًا يطبل، والاثنين في خدمة الفرعون الذي يتابع بناء هرمه وهو يرتفع، وانتهي العمل بعد فترة، لكن بارتفاع أقل وحجم أصغر من هرم خوفو، ويرجع هذا بطبيعة الحال إلي أن ثلث العمال قد ماتوا وصعدت أرواحهم إلي بارئها من أثر بناء الهرم الأول الأكبر، لكن عمومًا بعد عمل العمال وتطبيل الآلاتية والمطبلاتية اكتمل بناء الهرم حتي رضي عنه خفرع، الخبر المؤسف أن ثلث المصريين قد ماتوا من التعب والغلب كذلك بعد اكتمال هرم خفرع، ولم يبق سوي ثلث وحيد عاد إلي بيوتهم محملين بالتعب والألم وعناء الهرم، وعادت فرقة الآلاتية للمراقص والحانات تبدأ مسيرتها في الزمر والجعر والتطبيل، حتي جاء الفرعون الملك منقرع وقرر أنه (اشمعني هوه) ونادي في البلاد ليجمع الثلث الأخير من عمال وصنايعية وخبراء ومخططي ومهندسي ونجاري وفواعلية مصر كي يبنوا هرمه الخاص، وقطعًا استدعي فرقة المطبلاتية والآلاتية فجاءوا فورًا للطبل والزمر (ومن هنا جاء أصل كلمة نحتاية في وصف عمل الآلاتي في أي حفلة) وتحلقت فرقة الآلاتية حول بناة الهرم ليعزفوا ويطبلوا، وقد انتهي بناء الهرم بعد مشقة وألم وتعب، لكنه جاء أصغر من سابقيه نظرًا لقلة عدد العمال وموت أصحاب الصنعة وخبراء البناء، ثم لما اطمأن الفرعون علي هرمه كان الثلث الثالث للمصريين من العمال والمهندسين والنجارين والفواعلية والصناعية والبناءين والخبراء والعلماء والمخططين قد ماتوا جميعًا، ولم يبق من الشعب المصري باقيًا حيًا يعيش ويتزوج ويلد سوي أفراد فرقة الآلاتية!
الخبر المؤسف أننا جميعًا أحفاد هؤلاء الآلاتية!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق