موقع الفيزياء للدكتور مسعود

موقع الفيزياء للدكتور مسعود

الجمعة، 9 مايو 2008

التصوف الإسلامي



غير صحيح تلك المبالغات التي مفادها أن التصوف الإسلامي يستمد أصوله من مؤثرات خارجية, أجنبية عنه ونحن إذ لا تنكر التأثير والتأثر بين الثقافات الإنسانية فإنا - في مجال التصوف - نقف موقف ريبة من هذا الرأي. فالتصوف مقامات "والمقام هو قيام العبد بين يدي الله عز وجل فيما يقام فيه من المجاهدات والرياضات والعبادات" والصوفي المسلم لم يجاوز في كل مقاماته حدود القرآن وسيرة الرسول (ص)، فمقامات الزهد والحب والتوكل والتوبة والذكر وغيرها تجد في القرآن الكريم والحديث الشريف مرتكزاتها، فهما الاثنان منبتها.

وإن رابعة العدوية وهي شهيدة العشق الإلهي كانت أول من نادت في شعرها بحب الله بعيدا عن طمع في جنة أو خوف من نار، ولما تعلن عقيدة الحب في تقربها وتبتلها لله بقولها.



عرفت الهوى مذ عرفت هواك *** وأغلقت قلبي عمن سواك

وقمـت أنـاجيك يا من ترى *** خفايـا القلوب ولست أراك

أحبك حبـين حـب الـهوى *** وحـبا لأنــك أهـل لذاك

فأما الذي هـو حـب الهوى *** فشغلي بذكرك عمن سواك

وأمـا الذي أنــت أهـل له *** فكشفك للحجـب حتى أراكف

لا الحمـد في ذا ولا ذاك لي *** ولكن لك الحمد في ذا وذاك


فلم تكن تحتاج في حبها هذا إلى أكثر من آيتين. الأولى، هي قوله تعالى: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله". والثانية، هي قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين".ولنقس على مقام الحب كل المقامات الصوفية فلا حياد فيها عن القرآن الكريم- إن الأدب الصوفي على كثرته وثرائه يحتاج اليوم، وأكثر من ذي قبل إلى آليات قراءةومناقشة وتحليل وغربلة بغية فك رموزه وتصفيته من شوائب علقت به على مر العصور. ذلك أن القراءة المتباينة والمتناقضة للنص الواحد قد جرّت ويلات على كبار الصوفية، فالشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي هو شيخ العارفين وإمام الصوفيين عند نفر من النقاد والدارسين. وهو على العكس من ذلك خارج عن جادة الصواب وينعت بأبشع النعوت عند آخرين.والحلاج كذلك، هو الولي، التقي، النقي، الورع، عند أقوام. وهو نفسه الزنديق الملحد عند أقوام آخرين. والغريب أننا واجدون النص الواحد عند هؤلاء الصوفية الأقطاب يكون محل تفسير وتأويل بغير ضوابط منهجية فتنجرّ من وراء ذلك أحكام نقدية متباينة.ثانيا، بناء الإنسان: معنى البناء، ورد في لسان العرب لابن منظور: البَنْيُ نقيض الهدم. بنى البَنَّاءُ البناء بنيا وبناء وبِنًى. وقد تكون البناية في الشرف.

يقول الشاعر العربي

مـتى يبـلغ البنيان تمامه *** إذا كنت تبنيت وغيرك يهدمو

بنى الرجلَ: اصطنعه. يقول الشاعر:


يبني الرجالَ وغيره يبني القرى *** شتان بين قرى وبين رجال


.وقد شاع عند المتصوفة مفهوم الإنسان الكامل والمقصود به الرسول (ص). يقول الشيخ الجيلي في كتابه الإنسان الكامل في معرفة الأوائل والأواخر، وفي الباب الستين الذي يعنونه "بالإنسان الكامل وأنه محمد (ص) وأنه مقابل للحق والخلق"ويقول "اعلم حفظك الله أن الإنسان الكامل هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوليه إلى آخره، وهو واحد منذ كان الوجود إلى الآبدين فاسمه الأصلي الذي هو له محمد وكنيته أبو القاسم ووصفه عبد الله ولقبه شمس الدين..."ومن هذه المعاني اللغوية للبناء والمفاهيم الصوفية للإنسان، يمكن أن نستخلص أن الإنسان كيان ووجود قابل لأن يُصطنع ويُبنى لبنة لبنة، وجزءا جزءا. وكما ينمو جسده ذاتيا فإن روحه قابلة للسمو إن هو تعهدها بالرعاية والسقاية شأنها شأن الجسد، سواء بسواء. كما أن محور عملية البناء في الوجود بأكمله هو الإنسان.ففي الوظائف الثلاثة: الخلافة والعمارة والعبادة يكون الإنسان هو قطب الراحة الذي عليه مدار هذه الوظائف العظمى. إذن ليس غريبا أن يكون أدب الصوفية كله وبلا استثناء منصبّا على الإنسان بغية بنائه.

تجليات البناء: إن أهم مرتكز يستند عليه الصوفية في بناء الإنسان هو الروح وتهذيب النفس. فالإنسان روح وجسد متكاملان، إلا أنه لم يُكرَّم إلا بعد النفخ بالروح: "إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين, فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين"وأهم ما يقاس به الإنسان الفرد والجماعة الإنسانية في مساعيها الحضارية هو روحانياتها، وإرثها الروحي ولذلك كان الشاعر العربي يصدر عن رؤية كونية لما قرر هذه الحقيقة قبل قرون فقال:


يا خادم الجسم كم تشقى لخدمتـه *** أتطلب الربح فيما فيه خسران

أقبل على النفس واستكمل فضائلها *** فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان


وأول ما يسعى إليه الصوفية في أدبهم هو تبيان سبيلهم وإجلاء الغموض الذي قد يكتنف نهجهم فيعرّفون التصوف. يقول أحدهم:


ليس التصوف لبس الصوف ترقعه *** ولا بـكـاؤك إن غنى المغـنون


ولا صياح ولا رقص ولا طــرب *** ولا اضطراب كأن قد صرت مجنون


بل التصوف أن تصفو بلا كــدر *** وتـتبع الحـق والقـرآن والدين


وأن تُـرى خـاشعا لله مكتئبــا *** على ذنوبك طـول الدهر محزونـا


وأكتفي بهذين النموذجين الشعريين على سبيل الاستشهاد والتمثيل وما يقتضيه مقام المداخلة. لكني أكاد أجزم أن الأدب الصوفي كله شعر ونثره يتجه هذا الاتجاه، حيث الدعوة إلى الإصلاح والتربية وإعلاء شأن العقل الإنساني إلى أسمى مراتبه حتى امتزاجه بالنقل في أرقى منزلته.ولما يلتحم الشعر الصوفي بنثره، يتكون لدينا ديوان أدبي طافح بالمبادئ السامقة الرفيعة، التي تعد تفسيرا عمليا للقواعد الإسلامية التي تنبثق من القرآن الكريم والسنة الشريفة. ففي الأبيات السالفة الذكر يتحدد مفهوم التصوف عند أصحابه على أنه تقوى ووفاء وعفة وصفاء وعلم واقتداء...، وما هي إلا خلال بانية تؤسس للأخلاق باعتبارها جوهر الحضارة.وجماع القول وصفوته، فإن التصوف وما يحتويه من أدب: شعره ونثره، وما يزخر به من ابتهالات وأدعية ومدائح وتوجيهات، ونصائح يعد بحق رافدا من روائد الثقافة الإسلامية في كل أبعادها، الدينية والفنية والأخلاقية والاجتماعية والإنسانية، وغيرها من القيم التي ترمي إلى بناء الإنسان. والأدب الصوفي أدب رساليّ، لم يُقل أو يُنظم لذاته بل لغاية سامية هي إعلاء الإنسان إلى مستوى عقيدته، فيكون فاعلا حضاريا في خلافته لربه وعبادته لخالقه وتعميره لأراضه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

TvQuran

الوقت من ذهب فلا تضيعة فيما لا يفيد

شرح مبسط جدا لبعض الظاهر الفيزيائية